الحزنٌ مؤجّل ولا وداع
رمزي عبد الخالق
رمزي عبد الخالق
لم نستوعب الخبر بعد يا حاج. هو خبر ثقيل علينا كثيراً، لكن لا يمكننا مخالفة مشيئة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله…
نكتب ثم نمحو ثم نكتب من جديد لعلّ وعسى نستطيع التعبير عن الحدّ الأدنى مما هو في العقل والقلب والوجدان تجاهك أيها العزيز الغالي، ومعك صحبك ورفاق دربك حتى الشهادة، الأصدقاء والأخوة الأعزاء الشهداء محمود الشرقاوي وموسى حيدر وهلال ترمس وحسين رمضان.
شهيدنا الحبيب… نحن نعرف بعضنا منذ زمن، وأعرف جيداً صلابتك وشجاعتك وإيمانك، لكن بعد استشهاد الأمين العام لحزب الله سماحة الشهيد الأقدس والأغلى السيد حسن نصر الله ظهر لي جانب آخر من شخصيتك، رأيتُ فيك الاستشهادي محمد عفيف، وهذا ما أجمع عليه كلّ الزملاء الذين شاركوا في اللقاءات الأخيرة لنا معك.
التقينا في 30 أيلول الماضي، بعد ثلاثة أيام على استشهاد السيد، كنا مجموعة من الصحافيين والإعلاميين في اللقاء الإعلامي الوطني، بَكَينا معاً، وحاولنا سوياً التصبّر على الفاجعة التي ألمّت بنا جميعاً، واتفقنا على أنّنا سنؤجل الحزن ونستمرّ في مسيرتنا مهما كلفنا الأمر من تضحيات، وهذا كان مضمون توجيهك الأول لنا بعد شهادة السيد، لكن كلمتك الأولى كانت: «لا طيّب الله لنا عيشاً من بعدك يا سيد»…
وأذكُر أنك حين دخلت علينا في تلك الجلسة، وبعد السلام الحار ومصافحة جميع الموجودين كما هي عادتك دائماً، لفتَ نظر بعضنا أنك ما زلت تحمل هاتفك بيدك، ووضعته أمامك على الطاولة، رغم كلّ ما حصل من جرائم واغتيالات في الأيام العشرة التي سبقت لقاءنا، وأمام إلحاحنا عليك بضرورة التخلص من هذا الجاسوس كما وصفه السيد الشهيد قبل أشهر، كان جوابك حاسماً بأنّ وظيفتك هي التواصل الدائم مع الإعلاميين والصحافيين، اللبنانيين والعرب والأجانب، وأحياناً مع الوزراء والنواب والسياسيين والأحزاب، وأنك سوف تواصل القيام بمهامك على أكمل وجه…
وتنفيذاً لذلك الكلام أخذتَ الإعلام المحلي والعربي والأجنبي إلى جولة في الضاحية الجنوبية (2 تشرين الأول) وأوْصلتَ بالصوت والصورة والكلمة إلى العالم أجمع حقيقة واضحة هي أنّ ما يقصفه العدو الصهيوني في الضاحية ليس إلا مباني ومنشآت ومؤسسات مدنية، ومستوصفات ومستشفيات ومدارس ومؤسسات اقتصادية وأماكن عبادة… وليس هناك أيّ مستودع أسلحة على الإطلاق، ولا حتى مستودع شفرات.
هذا الأمر لم يعجب العدو فكان الردّ على هدف مدني أيضاً وذلك بتدمير المبنى الذي يضمّ مكتبك في حي معوّض ـ مكتب العلاقات الإعلامية، الذي يعرفه الجميع ويزوره الجميع، وهو كان هدفاً لإحدى مُسيّرات العدو قبل سنوات، في دليل على أنّك كنتَ دائماً في مرمى الاستهداف.
بعد الجولة بعشرة أيام عقد الحاج محمد مؤتمراً صحافياً على طريق مطار بيروت الدولي (11 تشرين الأول) فوق ركام المباني التي دمّرَتْها غارات العدو الهمجي البربري، وعرض لواقع الميدان الذي يتجلّى فيه رجال الله ويحققون الإنجاز تلو الإنجاز، وأعلن جملة مواقف سياسية، أبرزها عبارته الشهيرة: «بكير بكير بكير كثير الاستثمار في الحرب»، موجّهاً النصيحة للبعض في الداخل بأن لا يكرّروا أخطاء الماضي وينجرّوا خلف أوهام ورهانات لن تتحقق على الإطلاق.
ثم كان حضوره الوارف في الوقفة الإعلامية التي نظمها اللقاء الإعلامي الوطني في ساحة الشهداء (14 تشرين الأول) تحت عنوان «إعلاميون ضدّ العدوان الصهيوني»، وشارك فيها عدد كبير من الصحافيين والإعلاميين، وأكدت الكلمات على أنّ المقاومة منتصرة، وهي منتصرة بالفعل مع الرجال الأساطير في الجنوب ومع أمثال الحاج محمد الذين أجزلوا العطاء في سبيل هذا الانتصار الكبير…
وفي 22 تشرين الأول عقد الحاج محمد مؤتمراً صحافياً في روضة الحوراء زينب في الغبيري، بين نسائم المسك التي تفوح من أضرحة الشهداء، ومنهم الشهداء القادة الذين ترافق معهم ومع السيد الشهيد العظيم طوال أربعة عقود ونيّف منذ بدايات التأسيس الأولى.
في ذلك المؤتمر أعلن الحاج محمد بكلّ وضوح وجرأة وصراحة أنّ «المقاومة الإسلامية تؤكد مسؤوليتها الكاملة والتامة والحصرية عن عملية قيساريا واستهداف مجرم الحرب وزعيم الفاشية الصهيونية نتنياهو»، مضيفاً «انّ عيون مجاهدي المقاومة ترى وآذانهم تسمع فإنْ لم تصل إليك أيدينا في المرة السابقة فإنّ بيننا وبينك الأيام والليالي والميدان».
وقبل انتهاء المؤتمر الصحافي أعلن الناطق بإسم جيش العدو الصهيوني (السيّئ الذكر أدرعي ما غيره) أنّ أحد الأبنية المجاورة لروضة الحوراء زينب سوف يتمّ استهدافه، لكن الحاج محمد أصرّ على استكمال المؤتمر حتى النهاية، وحين سئل عن التهديد أجاب بجملته الشهيرة المُسجلة والتي يتناقلها الإعلام اليوم بعد استشهاده: «نحن الذين لم يخِفنا القصف لن تخيفنا التهديدات».
في 31 تشرين الأول أراد الاجتماع معنا كلقاء إعلامي وطني للتباحث في طريقة إحياء ذكرى أربعين سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله، وقد طُرحت أفكار عدة منها تنظيم وقفة في مكان الاستشهاد في حارة حريك تشارك فيها الأحزاب الوطنية والفصائل الفلسطينية وتجمع العلماء المسلمين وتغطيها وسائل الإعلام على اختلافها، لكن الحاج محمد فضّل عدم تعريض كلّ هؤلاء الناس للخطر، لأنّ العدو لا ينفكّ ينفذ غاراته الوحشية على الضاحية الجنوبية، فذهب إلى خيار أن يعقد هو نفسه مؤتمراً صحافياً في مجمع سيد الشهداء حيث كان السيد الشهيد يجمع الجماهير في معظم المناسبات الوطنية والدينية ويخطب بهم عبر الشاشة لترتفع القبضات ولتصدح الحناجر بالهتافات «لبيك يا نصر الله» و «هيهات منا الذلة»…
وبالفعل عقد الحاج محمد مؤتمراً صحافياً (11 تشرين الثاني) واستظلّ منبر السيد الشهيد ليعلن المواقف الحاسمة، لا سيما التأكيد مجدّداً بأنّ الكلمة الفصل هي للميدان، و»أنّ المجاهدين الأبطال هم الذين يحدّدون بقتالهم وصمودهم مصير المقاومة ولبنان بل مصير الشرق الأوسط برمّته».
وما دام الحديث هو عن أبطال الميدان، يجدر التذكير بأنّ العلاقات الإعلامية، وفي مناسبة عيد المقاومة والتحرير في أيار 2022، نظمت لنا الحاج محمد «رحلة» إلى معسكر عرمتى، حيث أتيحت الفرصة لنحو 1000 صحافي وإعلامي يمثلون مؤسسات محلية وعربية وأجنبية، للمشاهدة بأمّ العين كيف يُكتب مجد لبنان على أيدي ثلة من أبناء هذا الوطن الأبطال لكي يبقى عزيزاً وكريماً…
ما رأيناه يومها من مناورة عسكرية وعرض ميداني حي لعمالقة فرقة الرضوان بقيادة الشهيد ابراهيم عقيل والشهيد أحمد وهبي وبرعاية وحضور سماحة السيد الشهيد هاشم صفي الدين، هو ما يتمّ تنفيذه اليوم بشكل فعلي في المواجهات الدائرة ضدّ جيش العدو الصهيوني على امتداد الحدود اللبنانية الفلسطينية.
يمكن أن نستمرّ في الحديث إلى ما لا نهاية، لأنّ مسيرة الحاج محمد عفيف في رحاب المقاومة استمرّت لأكثر من أربعين عاماً، وهو من جيل المؤسّسين كما كان يسمّيهم سماحة السيد الشهيد، وكان يتمتع بقدرات كثيرة وكبيرة وبنى شبكة علاقات إعلامية واسعة جداً فيها الكثير من الصداقات والأخوة مع الأقربين، والكثير من الاحترام والتقدير مع الخصوم، إلا أولئك الذين باعوا أنفسهم للشياطين لأنّ عالمنا اليوم شياطينه على مدّ العين والنظر…
لذلك قد يكون من الصعب أن يحلّ شخص واحد محلّ الحاج محمد عفيف، ربما يتطلب الأمر تكوين فريق عمل، لكي يتولوا تنفيذ المهام التي كان يضطلع بها لوحده حتى قيل فيه عن حقّ إنه كان بذاته جبهة أو فيلقاً أو كتيبة إعلام، خاصة خلال الأيام الأخيرة من 27 أيلول إلى 17 تشرين الثاني.
ختاماً يا شهيدنا الحبيب… لن نقول وداعاً، لأنك باق دائماً مع كلّ فرد منا، ومعنا كمجموعة في اللقاء الإعلامي الوطني نعمل برعايتك وبوحي توجيهاتك، متآخين ومؤتلفي القلوب والعقول والوجدان، تماماً كما أردتَ، وهذا ما تعاهدنا عليه بالأمس ومعنا أشقاؤك الأعزاء أمام جثمانك الطاهر الذي ضمّه تراب صيدا إلى جانب والدك الجليل العلامة الشيخ عفيف النابلسي…